مرحبا، أودّ لفت النّظر لموضوع مهم في سياق الحملة التي نقوم بها ضدّ جائحة فيروس الكورونا (المعروف ب كوفيد-19)

كدولة تتعرّض لهذا الوباء، ما هي خيارات الحلّ المبنيّة على أسس علميّة المتاحة أمامنا؟

أيّ هذه الخيارات اختارت الدّولة التركيّة ومضت في تطبيقه؟

مبدئيّا، لا بدّ من أن نعلم أنّ آخر مرّة تعرّض فيها العالم لوباء بهذا الحجم والجديّة كان عام 1918 في جائحة انفلونزا H1N1

قبل البدء، من المفيد أن نقوم بتعريف بعض المصطلحات التي سنستخدمها لاحقا

أوّلا، التّدخّلات غير الدّوائيّة:

كما هو مفهوم من المصطلح، يستخدم لتوصيف كلّ الإجراءات الدّواء واللّقاح و التي تستهدف إبطاء أو إيقاف الوباء

عزل الحالات (بقاء الحالات ذات الأعراض في المنزل)، إغلاق الجامعات والمدارس، حظر التجوّل، الحجر الصحّي الطّوعي وغيرها من الإجراءات تدخل ضمن هذا التّعريف

ثانيا: معامل الانتشار

هذا المعامل هو مقياس لشدّة العدوى، ويعرّف على أنّه يساوي عدد الأشخاص الذي يقوم المصاب وسطيّا بنقل العدوى إليهم

إن لم يتم التدخّل عبر الإجراءات المناسبة، القيمة الافتراضيّة لهذا المعامل هي بين 2.2 و 2.4

الآن، بناء على الخبرة التي اكتبسها العلم من مواجهته وباءات سابقة، وبناء على نتائج الأبحاث العلميّة الحديثة الأخيرة حول كوفيد-19 لدى الدّول استراتيجيّتان رئيسيّتان للتعامل مع الجائحة

أوّلا، استراتيجيّة التّخفيف والتّلطيف، ثانيا، استراتيجيّة القمع والإخماد

بالنّسبة لخيار تخفيف حدّة انتشار الوباء، المجموعة المثلى من التّدابير اللازمة هي كما يلي

عزل المصابين، الالتزام بالحجر الصحّي المنزلي، الالتزام بالتّباعد الاجتماعي لمن هم ضمن فئة الخطر من كبار السّن والمرضى، وذلك ل 3 أشهر

هذا يعني بالضّرورة تقليل مجموع الإصابات المحتملة ومعدّل الوفيّات إلى النّصف عبر تلطيف حدّة المخطّطات البيانيّة التي تعبّر عنها

أيضا، هذا يعني إبطاء العدوى عبر تقليل معدّل النموّ الخاص بهذه المنحنيات ممّا يقتضي تأخير لحظة الذّروة، وهذا من الأهميّة بمكان

نتحدّث هنا، عن تأخير اللحظة الفارقة والظرف الحرج الحقيقي، حين لن تستطيع المشافي ان تستوعب أعداد المرضى الوافدين إليها

إنّ خيار التّخفيف يمكنّنا من تأخير هذه الذّروة تقريبا لمدّة شهر

أما إذا بحثنا الخيار الثّاني: خيار الإخماد، فأيضا نتج عن الأبحاث تركيبة الإجراءات المثاليّة التّالية

عزل المصابين، الالتزام بالحجر الصحّي المنزلي، إغلاق المدارس والجامعات الالتزام بالتّباعد الاجتماعي لكامل الفئات السكّانيّة (وليس فقط الفئات المعرّضة للخطر)، حظر التجوّل وتوقّف الحركة في البلد أو المنطقة وذلك ل 5 أشهر

الهدف تقليل قيمة معامل الانتشار إلى أقل من 1

إذا قمنا بتطبيق هذه الطّريقة بالشّكل الصّحيح، بإمكاننا تقليل مجموع عدد الإصابات وعدد الوفيّات بنسبة 70% أو 80% بالمئة

والأهم من هذا، بما يتعلّق بتأخير تاريخ الذّروة، يمكّننا هذا الخيار من تأجيله حتّى 6 أشهر

حسنا، في ظل وجود خيار الإخماد والكبح، بل بوجود تجارب ناجحة استخدمت هذا الخيار مثل الصّين وكوريا الجنوبيّة، لماذا تتّجه الدّول الاخرى لخيار التّخفيف والتّلطيف؟؟

السّبب، أنّنا حتّى لو تحمّلنا مشاقّ إجراءات خيار الإخماد قصير الأمد، يبقى خيار الانتكاس وإعادة انتشار الوباء واردا، وبالتّالي سيتوجّب علينا الاستمرار حتّى إيجاد لقاح

فهل نستطيع تحمّل هذه الإجراءات لمدّة متباعدة؟ إلى أي مدّة نستطيع ذلك؟

لماذا إجابة هذا الأسئلة مهمّة؟ لأنّ تكلفة إجراءات صارمة كهذه عالية جدّا جدّا

تطبيق إجراءات الكبح الصّارمة تعني انهيار الاقتصاد المحلّي عاجلا أم آجلا، وهو ما قد يكون بقدر أهميّة الوفيّات بالنّسبة للدّول

على الصّعيد الاجتماعي أيضا بذات الشّكل، نتحدّث عن أضرار قد تستمر حتّى أجيال قادمة

ثمّ من النّقاط الواجب الانتباه لها، أنّ تجربة الصّين وكوريا الجنوبيّة الحاليّة في ظل عدم إيجاد لقاح لا يزال مشكوكا بنجاحها المطلق

كنتيجة، همّ الدّول الحقيقي هو الموازنة بين تقليل مجموع أعداد الوفيّات والإصابات لأقصى قدر ممكن دون تحميل اقتصاد الدّولة وبنيانها المجتمعي لأضرار تسبّب انهيارها

مسعاها الرّئيسي هو تأخير اللّحظة التي ستعجز فيها البنية الصحيّة التحتيّة من وحدات العناية المركّزة عن استيعاب أعداد المصابين حيث يحتمل ان تحدث الفاجعة الحقيقيّة

تتوقّع الأبحاث أنّه لا زلنا نبعد 12 شهر على الأقل عن تاريخ إنتاج لقاح أوّلي يصل لأيدي المواطنين العاديّين

على الرّغم من كون فعاليّة اللّقاح الأوّلي معروضة للنّقاش، فمجرّد معرفتنا بأنّ عمليّة استخراجه وتصنيعه تحتاج 12- 18 شهرا يعني أنّنا أمام عمليّة طويلة الأمد

يقترح الباحثون - بناء على نتائج الأبحاث التي تمّت إقامتها - طريقة "الإخماد القابلة للتكيّف" للموازنة بين تقليل عدد الوفيّات وعدم إصابة اقتصاد الدّولة بأضرار بالغة

بناء على هذه الطّريقة، بعد تخطّي مرحلة الخطر الرّئيسيّة، يتم تليين وتخفيف الإجراءات الموضوعة بشكل مؤقّت ودوري ومدروس بناء على تقدّم عدد الحالات

لكن بالطّبع، أن تقوم بوضع حظر تجوّل وإغلاق المدارس لأسبوع، ثمّ تلغيه لأسبوعين مثلا هو إجراء قد لا يكون مناسبا للتطبيق

حسنا، أين تركيّا من كل هذا؟

بالنّسبة لملاحظتي، تركيّا صنعت منهجا هجينا خاصّا بها، وبدأت باتّباعه بشكل حثيث

بدءا من الإعلان عن أوّل حالة، بدأت تركيّا بتطبيق نظريّة التّلطيف والتّخفيف

لكن مع مرور الوقت، تذهب تركيّا تدريجيّا نحو الإخماد عبر التّوقيع على إجراءات أكثر شدّة وحزم

نعم اختارت تركيّا تفضيل أرواح المواطنين وتقليل عددالوفيّات إلى أقصى قدر ممكن، لكن مع هذا تجنيبا لاقتصادها وتركيبتها الاجتماعيّة من انهيار مفاجئ وعنيف اختارت الاتّجاه نحو الإخماد بالتّدريج بدلا من التّطبيق الفوري

الأخبار التي سمعناها مؤخّرا عن الدّعم الحكومي لابتكار وتصنيع كلّ من أجهزة الكشف عن المصابين وأجهزة التّنفس الاصطناعي محليّا تبعث للأمل والتّفاؤل

من جهة إذا قمنا بتخفيف حدّة تصاعد الوباء وتأخير ذروته، وقمنا من جهة أخرى بتسريع إنجاز التّحضيرات اللّازمة، على الأقل حتّى إيجاد اللّقاح نقضي المرحلة الحاليّة بأقلّ الخسائر

في الوقت الذي سيتّضح فيه الاتّجاه الذي قرّرت حكومتنا سلكه، يبقى في صميم كلا المنهجين ما يقع دوره كليّا أو جزئيّا علينا كمواطنين في هذه الدّولة (مثلا الحجر الصحّي المنزلي الطّوعي، وعزل الحالات المصابة)

من أجلنا، من أجل من نحبّ، من أجل مستقبل تركيّا، فلنلتزم بالإجراءات المتّبعة، ولنقم بتوعية محيطنا حول أهميّة هذه الإجراءات